لا شيء في الحياة يعكس جمال شهر رمضان المبارك في العالم العربي، حيث يحل الشهر الكريم وتتغير الوجوه وتتنوع الطقوس، وتملأ الأجواء نسمات روحانية لا تُشبه غيرها، ومهما تنوعت وكثرت الطقوس فلا شيء يُضاهي صوت المسحراتي والذي اعتبر الأكثر ارتباطًا بذاكرة الشهر الفضيل، ذلك الصوت الذي كان يأتي من طريق بعيد في ليالي رمضان يحمل رسالة واحدة.. حان وقت السحور التحضير وتناول الطعام.. فتاريخ المسحراتي كيف بدأ وأين وصل الآن؟ هذا ما نوضحه في السطور التالية.
تاريخ المسحراتي.. من أين بدأ؟
إن المسحراتي من أقدم وأهم التقاليد الرمضانية في العالم العربي، ومهما مر الوقت يظل هذا التقليد حاضرًا في الذاكرة الثقافية لأبناء الشعوب الإسلامية؛ لاحتفاظه بجاذبيته وشعبيته، ولهذا اعتُبِرَ رمزًا من رموز الشهر الفضيل.
يعود أصل المسحراتي للعصور الإسلامية الأولى، فقد كان المسلمون يبدؤون صيامهم عند الفجر، وكانوا بحاجة للتنبيه لوقت السحور من أجل تناول ما يسد حاجتهم ويعزز نشاطهم البدني، لا سيما في أزمنة لم تكن فيها وسائل حديثة.
ففي فجر كل يوم من أيام شهر رمضان المبارك، كان يخرج شخص من منزله في وقت السحر ليُعلن في شوارع المدينة أو القرية بعبارات جذابة شهيرة يُنادي الناس للاستيقاظ وبدء تحضير وتناول وجبة السحور قبل بدء الصيام.
يعود تاريخ المسحراتي وبدايته للعصور العباسية في بغداد، حيث بدأ دوره في أوقات الخليفة هارون الرشيد، وكان يطوف المسحراتي في الشوارع وحاملًا بين يديه طبلًا أو أداة موسيقية يُصدر من خلالها أصوات تُنبه الناس، ويتردد صوته بالأزقة الضيقة ليُشعر الناس بأنه حان وقت الاستيقاظ.
المسحراتي.. ما بين الفن والوظيفة
كما ذكرنا إنها وسيلة عملية لتنبيه الناس للسحور، ومع ذلك فقد تطور المسحراتي مع الوقت ليُصبح شخصية مميزة ومحبوبة، من خلال ابتكار المسحراتية طرق وأساليب خاصة للنداء.
إن المسحراتي في الماضي كان يستخدم طبلًا صغيرة، وتُعرف باسم آخر وهو "الدربوكة"، يقرع عليها حتى يُسمع صوته في أرجاء الحي، ويوقظ الناس لتحضير السحور.
كان يرتدي عادةً ملابس مميزة، ويقوم بتلحين أنغام معينة تختلف من منطقة لأخرى لتنبيه الناس، واشتهر غالبيتهم بإنشاد أناشيد رمضانية وأغاني تضفي أجواء من البهجة والروحانية.
من أشهر أغاني المسحراتي في كثير من الأماكن الشعبية وغيرها.. كانت: "اصحى يا نايم اصحى وحد الدايم، اصحى يا نايم وحد الرزاق".
تنوعت أغاني المسحراتي من منطقة لأخرى، فمنها ما كان يحتوي على نصوص دينية تحمل معاني الفرح والإيمان، وآخرون كان يرددون أبياتًا شعبية مرحة بهدف تفاعل السكان.
ذلك النوع من الإنشاد كان يحمل رسائل دينية مبهجة تنقل أهمية السحور في تعزيز النشاط البدني والروحي للناس، والمسحراتي كان حلقة وصل بين أفراد المجتمع في تلك الأيام.
كيف تغيّر دور المسحراتي مع الوقت؟
من تاريخ المسحراتي يتجلى ببدء دوره بشخصية تسير في الأزقة والشوارع لإيقاظ الناس وتنبيههم لتحضير السحور وبدء تناول الطعام، وقد تغيّر دوره بشكل تدريجي.
ففي المجتمعات الحديثة ومع انتشار الأجهزة الإلكترونية قلّت الحاجة للمسحراتي التقليدي في كثير من المدن الكبيرة، ولكن هذا لا يعني أن التقليد قد اندثر.. بل أصبح بشكل مختلف.
ففي بعض الدول العربية لا يزال المسحراتي يحافظ على مكانته الرمضانية، وفي بعض الأماكن تم الاستعانة بالمسحراتي رغم التطورات وتوافر الأجهزة الحديثة.
كانت تلك خطوة من أجل إحياء التراث وإضفاء لمسة من الأجواء القديمة على ذلك الشهر الفضيل، ولهذا بات المسحراتي في بعض البلدان جزءً من الاحتفالات الرمضانية التي تجمع المجتمع في جو من الفرح والمشاركة.
وفي كثير من المدن الكبرى باتت هناك محاولات لإحياء هذه التقاليد عبر المهرجانات الثقافية والأنشطة الرمضانية التي تشمل المسحراتي كأحد الفعاليات الشعبية التي تخطف الأنظار.
ذلك الأمر كان يعكس قيمة المسحراتي بأنه ليس لمجرد التنبيه لوقت السحور، بل إنه عنصرًا مهمًا في حفظ الهوية الثقافية والتراث الشعبي.
في كل زاوية من زوايا العالم العربي، وكل حي من أحياء المدن الإسلامية، كان هناك صوت يملأ الأرجاء يبعث الحياة في الأجواء في ساعات السِحر الباكر.. إنه صوت المسحراتي، تقليد رمضاني عريق يظل حاضرًا في الذاكرة الثقافية منذ قرون، ولا يزال يُشكّل جزءً من الروح الجماعية لذلك الشهر المبارك.
اقرأ أيضًا: