ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن المجتمعات تنهض حين يعلو صوت الإنسانية فوق صخب الأنانية، وحين تُصبح ثقافة التبرع جزءً من الوعي الجمعي لا مجرد ردّة فعل آنية، وفي الوطن العربي تتشابك الخيرات مع الأزمات، فيُطلّ العمل الخيري كنافذة أمل، ويُطلّ منها المرضى، والمحتاجون، والمهمشون، لعلّ ضوءً يبدد ظلمة الانتظار، وما بين الوجع والرجاء، يقف المتبرع كفعلٍ مضادٍ للأنانية، يكتب سطرًا جديدًا في حياة إنسان قد لا يعرفه، لكنه آمن بحقه في الشفاء والكرامة، وفي السطور التالية سنلقي الضوء على التبرع الخيري في الوطن العربي.
التبرع الخيري في الوطن العربي.. أصالة الجود وجذور الكرم
في كل زاوية من زوايا هذا الوطن المُمتد من المحيط للخليج، تنبض جذور الكرم في شرايين الشعوب، وتترسخ معاني العطاء في الوجدان العربي منذ قرون.
فليس التبرع الخيري في بلادنا فعلًا مستجلبًا من ثقافات أخرى، بل هو امتداد لأصالة متجذّرة، وثقافة ضاربة في عمق التاريخ، حيث كان الجود زينة الشرفاء، والعطاء شارة الأنقياء، والكرم مرآة للخلق القويم.
لقد امتاز العرب عبر تاريخهم بنبل السخاء، حتى قبل نزول الرسالة المحمدية، فلما جاء الإسلام، انبثقت شرارة الصدقة والزكاة كأحد أركان الدين، لترتقي بالمجتمع من منطق "الفضل" إلى منطق "الواجب" و"الحق".
فتحوّل التبرع من خيارٍ إلى مسؤولية، ومن عمل فردي إلى نهج جماعي ينهض بالأمم، ورغم تقلبات الزمن، وما اعتراها من فقر سياسي واقتصادي وأحيانًا فكري، ظل التبرع الخيري ركنًا راسخًا في ضمير الشعوب العربية، وإن تفاوتت درجات تنظيمه وانتظامه بين دولة وأخرى.
ففي المشرق كما في المغرب، ترى المساجد، والمؤسسات، والعائلات، تتكاتف وقت الحاجة، تتواصى في الأزمات، وتفتح أبواب الرحمة في وجوه المحرومين.
لكن ومع تسارع العصر وتزايد التحديات الاجتماعية والاقتصادية، لم يعد العطاء الخيري مجرد ترفٍ أخلاقي، بل غدا ضرورة استراتيجية، وصمام أمان لمجتمعات تعاني من أوجاع مستدامة.
أبرزها أوجاع المرضى الفقراء، أولئك الذين تتعثر خطواتهم على حافة الحياة، لأن قلوبهم تُعاني، وجيوبهم تخلو، وأملهم الوحيد ينبض في قلوب من يهبّون لمساعدتهم.
معاناة المرضى بين مطرقة الألم وسندان الحاجة
تخيل أن تصحو كل يوم على وخز في صدرك، أو ضيق في أنفاسك، لا تملك لشفائك دواء، ولا لمرضك تشخيصًا دقيقًا، لأن كلفة العلاج ترهق ميزانيتك المعدومة.
هذه ليست صورة درامية خيالية، بل مشهد يومي يتكرر في واقع مئات الآلاف من المرضى العرب، لا سيما أولئك الذين يعانون من أمراض القلب.
فالقلب عضو نابض قد يتحوّل لعبء ثقيل إذا ما أصابه العطب، لا سيما في غياب الرعاية الطبية المتخصصة، والأدوية الباهظة الثمن، والتقنيات الجراحية الدقيقة.
وما يزيد من قسوة المعاناة هو أن مرضى القلب غالبًا ما يحتاجون لتدخلات عاجلة، لا تحتمل تأجيلًا، ولا تُرجأ لحين تحسّن الأحوال.
وفي الوطن العربي يعيش الملايين تحت خط الفقر، ويعاني عشرات الآلاف من أمراض القلب المزمنة أو الحادة، دون القدرة على تغطية التكاليف الباهظة للعلاج، التي تشمل القسطرة، والعمليات الجراحية، وزراعة الصمامات، والمتابعة الدوائية المستمرة.
وكم من مريض رحل عن الدنيا لا لضعف حالته الطبية، بل لعجزه المالي؟ وكم من طفل صغير ارتجف قلبه لا لأن عضلته ضعفت، بل لأن أسرته أُنهكت من التفكير في "فاتورة الحياة"؟
تتكشف هنا فداحة الفجوة بين الواقع الصحي والعدالة الإنسانية، ويبرز الدور الحاسم للتبرعات في إنقاذ الأرواح، فكل تبرع مهما قلّ أو كثر، هو شريان حياة، ونبض أمل جديد، وامتدادٌ لرحمة لا يعرفها إلا من ذاق ألم الحاجة ومرارة العجز.
وفي هذا المشهد الإنساني القاسي، تتقدّم المؤسسات الخيرية لتكون جسرًا بين القادر والمحتاج، ومنارة في عتمة الواقع، ومأوى للقلوب التي تبحث عن قسط من الشفاء، وكسرة من الكرامة.
جمعية أصدقاء القلب الخيرية.. نبض الرحمة في جسد المجتمع
ومن بين تلك المنارات التي تنير درب العطاء وتُفعّل قيمة التراحم، تتألّق جمعية أصدقاء القلب الخيرية بوصفها إحدى الكيانات التي لم تتعامل مع الألم كخبر عابر، بل كنداء إنساني يستحق أن يُجاب، وكقضية مصيرية تستوجب الفعل لا التعاطف فقط.
منذ نشأتها اختارت الجمعية أن تنذر جهدها ووقتها وإمكاناتها لرعاية مرضى القلب من الفئات المحتاجة، واضعة نصب عينيها هدفًا ساميًا.. ألا يُحرم إنسان من العلاج لأنه فقير، ولا يُحكم على مريض بالموت لأن حسابه المصرفي صفر.
إنها فلسفة مبنية على أن الصحة ليست امتيازًا طبقيًا، بل حق أصيل من حقوق الحياة، وقد عملت الجمعية على تأسيس برامج متعددة، تبدأ من تغطية نفقات العلاج والتدخلات الجراحية المعقدة، وتشمل حتى الجوانب النفسية والاجتماعية للمريض وأسرته.
بلغة الأرقام أنقذت الجمعية عشرات الحالات التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت، لا لشيء إلا لأن أحد المتبرعين قرر أن يمنح من ماله نصيبًا لقلبٍ يتألم.
ووراء كل عملية ناجحة، طفل عاد يلهو، وأب عاد إلى عمله، وأم تنفست الصعداء، ولم تكتفِ الجمعية بجمع التبرعات التقليدية، بل طورت أدواتها لتواكب العصر، فأنشأت منصات رقمية تسهّل على المتبرع وصوله، وتضمن له الشفافية والمتابعة.
كما أطلقت حملات موسمية، وأيامًا طبية مجانية، ومبادرات مجتمعية تعزز الوعي، وتزرع ثقافة التكاتف بين الأفراد.
نهايةً.. إن أعظم ما يمكن أن نفعله في هذا العالم المتقلّب، هو أن نكون نقطة ضوء في عتمة أحدهم، أن نكون سببًا في شفاء، أو عودة، أو فرحة، أو مجرّد راحة قلبٍ أنهكه النبض، وجمعية أصدقاء القلب الخيرية لا تدعوك فقط للتبرع، بل لتكون شريكًا في قصة شفاء، في معجزة ممكنة، في إنقاذ حياة، فلا تتردد، فثمة من ينتظر نبضك ليُكمل طريقه.
اقرأ أيضًا:
جمعية خيرية لعلاج القلب في السعودية "أمراض القلب.. واقع مرير إزاء الكثيرون"
كيف يُشكِّل التبرع الخيري للعمليات نوافذ الأمل للمرضى المحتاجين؟