ما إن يهلُّ هلال ذو الحجة، تهتزّ القلوب فرحًا، وتتشوق النفوس لأيامٍ هي من خير أيام الله، أيامٍ عطرها الذكر، وسُقياها التوبة، وظلها رحمة وغفران، هناك مكة تزهو، والمشاعر تتلألأ، والحجيج يسيرون بخطى ثابتة، كلٌ منهم يحمل قصة، ودعاء، وندمًا، وأملًا، في هذه الأيام، تتجسد مشاهد عظيمة لا تُنسى، من قوافل تتجه إلى منى، وقلوب تفيض في عرفات، وسكينة تغمر مزدلفة، وأكفّ ترتفع قرب الجمرات، في السطور التالية سنتطرق لنُحدِثكَ عن أيام الحج بالتفصيل.
أيام الحج بالتفصيل
الحج ليس مجرد فريضة من فرائض الإسلام، بل تجربة روحية فريدة، وركن عظيم من أركان الدين، يربط المسلم بأصل الدين وأعماق الإيمان.
يعد اجتماع الأمة في زمانٍ واحد ومكانٍ واحد، لتلبية أمر الله والسير على خطى إبراهيم الخليل ومحمدٍ خاتم النبيين، وفي الحج تتجلى المساواة، وتزول الفوارق، وتذوب الأنانية في محيط من الطاعة والخضوع.
وتُعد أيام الحج محطات مقدسة يتنقل فيها الحاج بين مشاعر مهيبة ومناسك خالدة، وفي السطور التالية نُبين لك أيام الحج بالتفصيل:
أولًا: العشر الأوائل من ذي الحجة
تُفتتح أيام الحج بعشر ذي الحجة، وهي أفضل أيام الدنيا فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ" رواه البخاري.
ففي هذه الأيام يتأهب الحاج، ويتهيأ روحيًا وبدنيًا للسفر إلى بيت الله الحرام، يبدأ بالتوبة، والاستعداد القلبي، وتحضير النية الخالصة، والتزود بما يعينه على الطاعة.
كما يُستحب فيها الإكثار من الذكر، والصيام، وقراءة القرآن، وكثيرًا من الحاج يصلون إلى مكة قبل يوم التروية، فيطوفون طواف القدوم إن لم يكونوا متمتعين، ويؤدون العمرة في حال التمتع، ويتجهزون للمناسك الكبرى التي تبدأ من يوم التروية.
ثانيًا: يوم التروية
في اليوم الثامن من ذي الحجة يبدأ الحاج الدخول في مرحلة المناسك الكبرى، سُمّي يوم التروية لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء استعدادًا ليوم عرفة الذي لا ماء فيه آنذاك، ومن أهم أعمال اليوم:
1- الإحرام بالحج
- المتمتع يُحرم بالحج من مكانه بمكة.
- القارن والمفرد يكونان قد أحرما من الميقات من قبل.
- يُسنّ الاغتسال والتطيب ولبس الإحرام، ثم النية بالحج.
2- الانطلاق إلى منى
- بعد صلاة الفجر، يتوجه الحجاج إلى منى.
- هناك يُصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، قصرًا دون جمع.
- هي أول منازل الحج، والهدف من المبيت بها هو التهيئة النفسية ليوم عرفة العظيم.
ثالثًا: يوم عرفة
هو اليوم التاسع من ذو الحجة، وهذا هو الركن الأعظم في الحج، ومن أهم محطات هذا اليوم العظيم:
1- الانطلاق من منى إلى عرفة
- بعد شروق الشمس، يسير الحجاج إلى سهل عرفة.
- يُستحب التهليل والتكبير والدعاء أثناء الطريق.
2- الوقوف بعرفة
- يبدأ من زوال الشمس حتى غروبها.
- الوقوف يكون في أي مكان من عرفة.
- يُستحب الإكثار من الدعاء، فهو خير يوم للدعاء.
- خطبة عرفة تُلقى في مسجد نمرة، تليها صلاة الظهر والعصر جمعًا وقصرًا.
3- الانصراف إلى مزدلفة
- بعد غروب الشمس، ينفر الحجاج إلى مزدلفة بهدوء وسكينة.
- يُصلون المغرب والعشاء في مزدلفة جمعًا وقصرًا.
- يُبيت بها الحاج، ويجمع الجمرات استعدادًا للرمي في الغد.
رابعًا: يوم النحر
إنه يوم العيد.. العاشر من ذو الحجة، وهو أعظم الأيام عند الله، وتؤدى معظم مناسك الحج الكبرى فيه، وهي:
- رمي جمرة العقبة الكبرى: تُرمى بسبع حصيات مع التكبير عند كل حصاة، ويبدأ الرمي بعد طلوع الشمس.
- ذبح الهدي: فعلى المتمتع والقارن ذبح الهدي، ويُستحب أن يذبح بنفسه إن أمكن.
- الحلق أو التقصير: الحلق أفضل للرجال، والتقصير للنساء.
- التحلل الأول: يحصل بعد اثنين من الثلاثة "الرمي، الحلق، الذبح"، بعده يجوز كل شيء إلا الجماع.
- الطواف الإفاضة: هو ركن من أركان الحج، وبعده يكون التحلل الأكبر، ويحل له كل شيء.
خامسًا: أيام التشريق
تُسمى "أيام التشريق" لأن الناس كانوا يشرقون اللحم فيها، أي يُجففونه تحت الشمس، وهي "11-13 ذو الحجة"، وأهم الأعمال فيها:
- المبيت بمنى: واجب على الحاج أن يبيت بها ليالي التشريق.
- رمي الجمرات الثلاث: في كل يوم يُرمى "جمرة الصغرة، جمرة الوسطى، جمرة العقبة الكبرى"، وكل جمرة بسبع حصيات، ويُكبّر عند كل رمية ويدعو بين الجمرات.
- الذكر والتكبير: يُكثر الحاج من التكبير بعد الصلوات، فيقول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
- التعجّل أو التأخر: يجوز للحاج أن يغادر في اليوم الثاني عشر إن أراد "هذا بعد رمي الجمرات"، ويسمى هذا التعجل، ومن تأخر إلى الثالث عشر فهو أفضل.
سادسًا: طواف الوداع
هو آخر واجبات أيام الحج بالتفصيل، يُؤدى عند مغادرة مكة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حتَّى يَكونَ آخِرُ عَهْدِهِ بالبَيْتِ".
ويستثنى الحائض والنفساء، وليس فيه سعي.. فقط سبعة أشواط يطوفها حول الكعبة بشكلٍ صحيح.
نهايةً.. إن الحج ليس مجرد انتقال جسدي بين المشاعر، بل ارتقاء روحي في طريق الطاعة، وتزكية للنفس، ومراجعة شاملة للعمر، أيام متسلسلة، كل يوم يحمل رسالة، وكل شعيرة تهمس في أذن القلب.
اقرأ أيضًا: