في موسم الحج تُفتح أبواب السماء، وتتنزل الرحمات، وتُغفر الذنوب، وتُبدل السيئات حسنات، موسم استثنائي في حياة المسلم، يتجدد فيه العهد مع الله، وتنتعش فيه الروح، ويُولد الإنسان من جديد، فهو يقف بين يدي الله على صعيد عرفات، باكيًا متضرعًا، يسأله النجاة من النار، والفوز بالجنة، لكن هذه الرحلة الإيمانية العظيمة لا تكتمل إلا إذا سار الحاج على درب الفقه والبصيرة، متبعًا السنة، عارفًا بالمناسك، ملتزمًا بالإجراءات التي وضعها الشرع، وفي السطور التالية سنسلط الضوء على اجراءات الحج تفصيليًا.
اجراءات الحج
إن رحلة الحج، بقدسيتها وعظمتها، لا تبدأ فقط من لحظة الإحرام، بل تنطلق مع أول خطوة في سلسلة الإجراءات التي تنظّم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
فبين متطلبات التسجيل، وأنظمة التفويج، وإجراءات السفر، يتجلّى مدى الدقة والتنظيم الذي يسبق هذه الرحلة الروحانية، وفيما يلي إجراءات الحج:
أولًا: الاستعداد للحج
- النية والإخلاص: الحج لا يصح إلا بنية خالصة لله تعالى، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فقبل الانطلاق إلى بيت الله الحرام، لا بد للحاج أن يعقد العزم على أداء الحج تقربًا إلى الله، لا رياءً ولا سمعة ولا طلبًا للثناء.
- الاستعداد العلمي: من الحكمة أن يهيئ المسلم نفسه علميًا قبل أداء المناسك، وذلك بقراءة الكتب الموثوقة، أو حضور الدروس العلمية، أو الاستماع إلى العلماء الثقات، ليؤدي المناسك على الوجه الصحيح دون جهل أو مخالفة.
- الاستعداد البدني والصحي: لِما في الحج من جهد بدني، ينبغي للحاج أن يطمئن على صحته، ويأخذ التطعيمات المطلوبة، ويجهز نفسه نفسيًا وجسديًا، ولا سيما إن كان من كبار السن أو من ذوي الأمراض المزمنة.
ثانيًا: المواقيت المكانية
هي أماكن حددها الشرع للإحرام منها، ولا يجوز تجاوزها إلا محرِمًا لمن أراد النسك، وهي:
- ذو الحليفة (أبيار علي) لأهل المدينة.
- الجحفة لأهل الشام.
- يلملم لأهل اليمن.
- قرن المنازل (السيل الكبير) لأهل نجد والطائف.
- ذات عِرق لأهل العراق.
ومن كان دون المواقيت، يُحرِم من مكانه.
ثالثًا: إحرام الحج
الإحرام هو نية الدخول في النسك "حج أو عمرة"، ويُستحب أن يُقترن بالغُسل، وتطييب البدن لا الملابس، ولبس ثياب الإحرام للرجال "إزار ورداء أبيضين غير مخيطين"، أما المرأة فلباسها العادي الذي لا يصف ولا يشف، دون تبرج أو تغطية للوجه بالنقاب.
ثم ينوي الحاج بقلبه النسك قائلًا: "لبيك حجًا" أو "لبيك عمرة"، حسب النية، وتُشرع التلبية عقب الإحرام، ويكثر منها حتى دخول مكة، قائلًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
رابعًا: دخول مكة والقيام بالعمرة
من اختار حج التمتع، يبدأ بعُمرةٍ مستقلة، ثم يتحلل منها، وينتظر يوم التروية للحج، أما القارن والمفرد، فيبقون على إحرامهم..
- الطواف: أول ما يُفعله القادم إلى مكة هو طواف القدوم أو طواف العمرة، فيطوف حول الكعبة سبعة أشواط، يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إليه، مع استلامه إن أمكن، أو الإشارة إليه.
- السعي بين الصفا والمروة: بعد الطواف، يسعى الحاج بين الصفا والمروة سبعة أشواط، يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة، ويُستحب أن يسرع الرجل في جزءٍ من المسافة بين العلمين الأخضرين.
- الحلق أو التقصير: ثم يُقصّر الحاج شعره إن كان متمتعًا "ولا يحلق، لأن الحلق يُفضّل بعد الحج"، وبذلك يتحلل من عمرته، وينتظر يوم التروية.
خامسًا: يوم التروية
في هذا اليوم يُحرِم المتمتع من مكانه بالحج، ويبيت الحجاج في منى استعدادًا للوقوف بعرفة، ويُصلّون فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، قصرًا دون جمع.
سادسًا: يوم عرفة
إنه أعظم أيام الحج، بل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة":
- يتوجّه الحاج إلى عرفات بعد شروق الشمس، ويقف هناك من الزوال "الظهر" حتى غروب الشمس.
- يُكثر من الدعاء والتضرع، فالدعاء في هذا اليوم مستجاب.
- يُصلّي الظهر والعصر جمع تقديم وقصرًا.
- بعد غروب الشمس، ينفر الحاج إلى مزدلفة، ويبيت هناك ويجمع فيها الحصى لرمي الجمرات.
سابعًا: يوم النحر
وهو يوم عيد الأضحى، وفيه أعظم المناسك:
- رمي جمرة العقبة الكبرى: يرمي الحاج الجمرة الكبرى بسبع حصيات، مكبرًا مع كل حصاة.
- ذبح الهدي: فعلى المتمتع والقارن أن يذبحا هديًا، أما المفرد فليس عليه هدي.
- الحلق أو التقصير: يحلق الرجال رؤوسهم أو يقصرونها، والحلق أفضل، أما النساء فيقصرن بقدر أنملة.
- طواف الإفاضة: هو ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به. يطوف الحاج بالكعبة سبعة أشواط، ثم يسعى بين الصفا والمروة (لمن لم يسعَ بعد طواف القدوم).
بعد هذه الأعمال، يتحلل الحاج التحلل الأكبر، ويُباح له كل شيء كان محرَمًا عليه بالإحرام، حتى النساء.
ثامنًا: أيام التشريق
يبيت الحاج في منى، ويقوم كل يوم برمي الجمرات الثلاث (الصغرى، الوسطى، الكبرى)، كل واحدة بسبع حصيات:
- يبدأ الرمي بعد الزوال.
- يُستحب الترتيب في الرمي.
- يجوز التعجل في الخروج في اليوم الثاني عشر "أي مع غروب الشمس"، لكن الأفضل المبيت حتى اليوم الثالث عشر.
تاسعًا: طواف الوداع
آخر ما يفعله الحاج قبل مغادرة مكة هو طواف الوداع، وهو واجب على غير الحائض والنفساء، يُطاف فيه بالكعبة سبعة أشواط، ويكون ختامًا للنسك.
نهايةً.. إن رحلة الحج ليست مجرد تحرك بدني بين المشاعر المقدسة، بل تدريب روحي على التوبة، والإخلاص، والصبر، والتجرد من الدنيا، والإقبال على الله بقلب خاشع، فكل شعيرة في الحج لها دلالة ومعنى، وكل خطوة تحمل حكمة ربانية، وقد جعل الله هذا الركن العظيم موسمًا للتوبة الجماعية، وميدانًا لتكافؤ البشر، حيث لا فضل لعربي على أعجميّ إلا بالتقوى.
اقرأ أيضًا: